احمد ابوالسعود.. المفكر الذي أعاد للأمة مجدها




"إني لها فداء".. كانت هذه هي الجملة التي كتبها الشيخ "أحمد أبوالسعود" تحت مقدمته لترجمته العربية عن الفرنسية لكتاب "مقدمة ابن خلدون"، والتي أباحت تلك الجملة للكتاب أن يظل حيا لأكثر من 400 عام رغم محاولات الكثيرين لمحوه. فمن هو الرجل الذي وقف بجانب "ابن خلدون العالم" وفكره الخالد؟
كان "أحمد بن محمد بن سعود" مولودا في قرية "طوخ" التابعة لمحافظة القليوبية في مصر في عام 1093 هجري (1681م) لأب مصري كان يعمل مدرسا في الكتاب، والذي لاحظ نبوغ ابنه منذ صغره فألحقه بكتاب القرية ليتعلم أولى مبادئ القراءة والكتابة وأساسيات علوم الدين واللغة العربية.

وينحدر الشيخ "أحمد أبوالسعود" من عائلة علم، حيث كان جد والده المباشر "سعود" متولي المذهب المالكي في مصر في وقته، ووالده "محمد" الذي كان إماما وخطيبا في مسجد القرية، وخاله "أحمد التونسي" الذي كان شيخا لمشايخ القراء بالبلاد في وقته، وعم والده "عبدالحميد" الذي كان عالما من علماء الأزهر الشريف وصاحب مؤلفات عديدة، وكان لتلك النشأة الدور الرئيسي في تنمية مدارك "أحمد أبوالسعود" منذ نعومة أظافره حيث حفظ القرآن الكريم كاملا وهو في سن العاشرة، وبعد أن ختم القرآن الكريم وأتقن تجويده حفظ المتون العلمية في علوم النحو والبلاغة والمنطق والأصول والفقه.
وفي قرية "طوخ"، حزم "أبوالسعود" أمتعته وودع أهله وأطلق العنان لموهبته وعبقريته العلمية حيث قدم إلى القاهرة والتحق بالأزهر الشريف ليبدأ رحلته في التعلم والتأليف، إذ كان في مطلع شبابه قد ألف كتابا في النحو والصرف سماه "تحفة الرشيد"، ثم في الفرائض والمواريث سماه "فتح الغفار" ثم في فن "البديع" وسماه "روض البيان في علم البديع".

ولم يكتف "أحمد أبوالسعود" بما تعلمه بالأزهر الشريف، وإنما درس على يد عدد من العلماء والمفكرين، مثل الشيخ "عبدالقادر العدوي" والشيخ "سيد مرتضى الزبيدي" صاحب كتاب "تاج العروس من جواهر القاموس" والشيخ "محمد الخرشي" والشيخ "الشبراملسي"، والشيخ "مصطفى البكري" والشيخ "محمود الغنيمي" وغيرهم. وإلى جانب تأليف الكتب، كان "أبوالسعود" أيضا شاعرا وناقدا أدبيا، حيث نظم كثير من القصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وفي رثاء العلماء والأدباء، وكان ينقد الشعر ويناقش القضايا الأدبية في مجالس العلم والندوات الأدبية التي كان يحضرها.
اشتهر "أحمد أبوالسعود" بأنه كان من المقربين من المماليك، وكانوا يولونه جل اهتمامهم ويعرفون منزلته العلمية الرفيعة، فكان له مجلسه الخاص بهم الذي اتخذه بابًا للوصول إلى العلماء والأدباء والوجهاء في زمانه.
وعندما تولى السلطان "علي بك الكبير" حكم مصر في عام 1163 هجري (1749م) اهتم "أبوالسعود" بالأدب العربي، وأنشأ ديوانا سماه "ديوان الإنشاء" وأمر "أبوالسعود" بإدارة هذا الديوان وأسند إليه بعض المناصب الإدارية نظرًا لثقافته ومكانته العلمية الرفيعة، لكنه أبى أن يقبل إلا منصب مشيخة الجامع الأزهر الشريف، والذي تولاه بعد ذلك وتفرغ له حتى وفاته في عام 1194هجري (1780م).

إبان توليه "أبوالسعود" مشيخة الأزهر الشريف، كان يرى ما حل بالأمة العربية والإسلامية من هوان وضعف وتخلف، فقرر أن يعمل على إصلاح حالها، لكنه وضع خطة دقيقة لتنفيذ ذلك، إذ رأى أن أولى خطوات الإصلاح هي إصلاح التعليم، فبدأ في إصلاح الأزهر الشريف حيث اهتم بتحسين المناهج الدراسية وأساليب التدريس، وأنشأ مكتبة كبيرة بالأزهر الشريف وأوقف عليها كتبه ومؤلفاته، وشجع العلماء والطلاب على التأليف والتصنيف، فكان له الفضل في نهضة علمية كبيرة بالأزهر الشريف.
كان "أحمد أبوالسعود" رجلا ذا همة عالية وعزيمة قوية، وكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يتردد في إبداء رأيه مهما كان صعبا أو صادما للبعض، وهو ما جعله كثيرًا ما يتعرض للانتقاد بل والهجوم من قبل بعض العلماء، ولكن قوته وصلابته مكنّاه من مواجهة كل تلك الانتقادات. وتوفي "أحمد أبوالسعود" في مصر عام 1194 هجري (1780م) مخلفا وراءه ثروة علمية كبيرة وإرثا ثقافيا وفكريا غنيا، متمثلا في مؤلفاته التي تجاوزت السبعين مؤلفا في علوم مختلفة، منها "إرشاد الغاوي" في أصول الفقه و"حاشية على تفسير البيضاوي" في علوم القرآن و"فتح الله المنان في شرح منظومة الشيخ عبدالرحمن البغدادي في علم البيان" وغيرها من المؤلفات التي لا تزال تدرس في الأزهر الشريف والجامعات العربية والإسلامية حتى الآن.