باسم الله الرحمن الرحيم
طيب وبما إننا تكلمنا في الحلقة الماضية عن حسن الصباح وزيه الأسطوري، فما رأيك أن ندخل معه إلى قلعة الموت لِنَخُض في معركة فكرية وثقافية وعسكرية مختلفة تمامًا عن كل المعارك التي خاضها المسلمون في ذلك الوقت، فبرغم أن الدولة الفاطمية كانت في آخر أيامها قد أنهكها الصليبيون تمامًا، حيث لم يتبقى لها سوى مدينة الإسكندرية وبلبيس، وبرغم أن العباسيين كانوا في حالة ضعف شديد، فلم يتمكنوا من الدفاع عن بغداد في وجه هجوم المغول، وبرغم أن الأيوبيين كانوا في حالة ضعف شديد في مصر أدت إلى قدوم الحملة الصليبية السابعة، إلا أن الحشاشين كانوا في أشد قوة لهم، واستطاعوا التوسع في كل اتجاه، فبسطوا سلطانهم على الشام وبلاد فارس، واتخذوا من قلعة ألموت مركزًا لانطلاقهم في كل الاتجاهات، تلك القلعة التي حصنها حسن الصباح بخمسة خطوط دفاعية، ومناطق مموهة، وبرغم هذا فقد استطاع المغول اقتحامها بعد 10 سنوات فقط من وفاة حسن الصباح.
وقد يرى البعض أن قوة الحشاشين جاءت من كونهم طائفة سرية تعمل في الخفاء، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا أكثر تنظيمًا وأفضل تدريبًا، بل وكان عندهم مدارس ومكتبات وعلماء وأدباء، ولكن هذا سلاح لا يكفي وحده، فلو كان الأمر كذلك لانتصرت الشيعة على السنة، أو العكس، أو لانتصرت دولة فاطمية على دولة عباسية، ولكانت هناك ممالك كثيرة قائمة على فكرة التنظيم والعلم، ولكن ما الذي ميز الحشاشين حتى تمكنوا من التوسع في كل اتجاه وفرض نفوذهم على الحكام المسلمين، صحيح أن ما روجوه من أفكار باطنية كان له تأثير كبير في ذلك، ولكنهم لم يكونوا أول طائفة تروج أفكارًا باطنية، فالفاطميون والإسماعيلية سبقوهم إلى ذلك بكثير، وقاموا بتأسيس دول كبرى، وبالتالي فالأمر لم يكن في الفكرة وحدها، ولا في التنظيم والسرية وحدها، ولكن الإجابة عند حسن الصباح نفسه ورجاله، ولنبدأ بالجانب العسكري، ففي الوقت الذي كان المسلمون فيه منغمسين في معارك تقليدية، تعتمد على العدد والعتاد والقوة البدنية، كان الحشاشين يعتمدون على حرب العصابات.
وهي نوع من الحرب يقوم على فكرة أن جيشًا صغيرًا ومدربًا تدريبًا جيدًا، مزودًا بأسلحة متطورة، يستطيع هزيمة جيش كبير جدًا، ولكن بغير تدريب وعتاد، وقد بدأت حرب العصابات أو ما يعرف بـ "حرب الأنصار" منذ القدم، ففي معركة أحد عندما هزم النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشًا، كان عدد الأنصار قليلًا للغاية إذا ما قورن بعدد جيش قريش، ولكنهم كانوا مدربين جيدًا، كان لكل منهم دور معين، وكان هناك تنسيق جيد بينهم، الأمر الذي أدى إلى هزيمة جيش قريش، وهو ما حدث أيضًا مع الحشاشين، وإن كان قد تطور عن هذا كثيرًا.
وقد استطاع الحشاشين تطوير حرب العصابات بالاعتماد على عوامل عديدة أهمها سرية التحرك، فقد كانوا يتحركون في مجموعات صغيرة، ويختفون بسرعة بعد تنفيذ هجماتهم، ويستعملون أساليب خداعية وتمويهية مختلفة، فضلًا عن دراستهم الدقيقة للمناطق التي يشنون فيها هجماتهم، وإتقانهم لفنون القتال والرماية، بل واستخدامهم لأسلحة متطورة مثل السهام المسمومة والخناجر وغيرها، وكل هذا أعطاهم قوة كبيرة وتفوقًا على أعدائهم.
كان الحشاشين يتلقون تدريبات صعبة للغاية، تتضمن التدريب على فنون القتال، ومهارات التجسس والتمويه، واستخدام الأسلحة المتطورة، ولكن هل كان هذا التدريب ضروريًا بالفعل؟
يقول أحد العلماء أن "حسن التدريب يجعل من الرجل العادي جنديًا، ويجعل من الجندي العادي محاربًا، ويجعل من المحارب العادي بطلًا"، أي أن التدريب الجيد يكفي وحده لخلق جيش قوي لا يقهر، وهذا بالضبط ما فعله حسن الصباح، وقد كان يقول لأتباعه دائمًا "أنتم لستم جيشًا عاديًا، أنتم جيش من المحاربين، وأنا سأحولكم إلى جيش من الأبطال"، وهذا ما حدث بالفعل، فقد تمكن من تحويل أتباعه إلى جيش قوي لا يقهر استطاع أن يفرض سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي، وأن ينتصر على أعدائه في كل معركة يخوضها.
كانت الأفكار الباطنية التي روج لها الحشاشين عنصرًا رئيسيًا في نجاحهم، فقد استطاعوا من خلالها استقطاب أتباع جدد من بين الشباب المسلم الساخط والمتمرد، كما استطاعوا إقناعهم أن ما يقومون به هو عمل جهادي مقدس، ومن ثم زادت ثقتهم بأنفسهم وإيمانهم بقضيتهم، وزاد مع هذا الإيمان تمسكهم بالقتال واعتناق أفكارهم مهما كلفهم الأمر.
ولكن الحشاشين لم يكتفوا بالتدريب والأفكار الباطنية، بل امتلكوا أيضًا قائدًا عسكريًا فذًا، هو حسن الصباح نفسه، الذي وضع خطة محكمة للتوسع، واختار أهدافه بدقة، واستخدم كل الوسائل المتاحة له لتحقيق أهدافه، سواء كانت حرب العصابات أو التدريب الجيد أو الأفكار الباطنية، وكل هذا أدى إلى توسع دولة الحشاشين في كل اتجاه، وفرض سيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي، وامتدت دولتهم من المغرب إلى بلاد فارس، وهو ما جعلهم دولة عظمى لها نفوذ كبير في منطقة الشرق الأوسط.
ولكن هذه الدولة لم تستمر طويلاً، فقد استطاع المغول اقتحام قلعة الموت بعد 10 سنوات فقط من وفاة حسن الصباح، وذلك لأن المغول كانوا يتمتعون بقوة عسكرية كبيرة جدًا، وكانوا يمتلكون أسلحة متطورة، ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد، فقد لعبت الخلافات الداخلية بين الحشاشين دورًا كبيرًا في سقوط دولتهم، وقد ذكرنا في الحلقة الماضية كيف أن حسن الصباح كان يعتمد على أبنائه في حكم دولته، ولكنهم لم يكونوا على قدر المسئولية، فاندلع الصراع بينهم بعد وفاته، الأمر الذي أدى إلى ضعف دولتهم، ولكن الشيء الذي أدى إلى سقوطهم في النهاية هو الطريقة الوحشية التي كانوا يتعاملون بها مع أعدائهم، والتي أثارت عليهم عداوة كل الحكام المسلمين، الذين تكاتفوا مع المغول لإسقاط دولتهم.
إذن، فالحشاشين مثلهم مثل كل الدول، قامت على عوامل القوة والتوسع، وسقطت بسبب عوامل الضعف والخلافات الداخلية، ولكن ما يميزهم أنهم تمكنوا من فرض سيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي في وقت قصير جدًا، وذلك بفضل استخدامهم لحرب العصابات والتنظيم الجيد والتدريب الجيد، ولكن الأهم من كل هذا هو أنهم تمكنوا من استقطاب أتباع جدد من الشباب المسلم الساخط والمتمرد، وإقناعهم أن ما يقومون به هو عمل جهادي مقدس، وهذا هو سر قوتهم الحقيقية.
وفي الختام، يظل الحشاشون أحد أكثر الطوائف السرية غموضًا في التاريخ، فقد استطاعوا من خلال السرية والتنظيم الجيد والتدريب الجيد والأفكار الباطنية أن يفرضوا سيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي، وأن ينتصروا على أعدائهم في كل معركة يخوضونها، ولكن كل هذا لم يمنعهم من السقوط في النهاية، بسبب الخلافات الداخلية والطرق الوحشية التي كانوا يتعاملون بها مع أعدائهم