انتظرني يا ملاكي الصغير.. انتظرني
كان يتحدث بتلك الكلمات وكأنه يمسك بقشة يقاوم بها بحرًا هائجًا، شهور طويلة، وربما سنين، قضاها في انتظار أبنائه الثلاثة، بعدما رحلوا فجأة في ليلة غادرة حزينة، تاركين وراءهم أباً منهارًا ينتظر عودتهم كل يوم.
في يوم بارد من أيام الشتاء، فتح رشاد المتولي عينيه على حلم غريب، رأى فيه أبنائه الثلاثة يضحكون أمامه ويقولون له: "انتظرنا يا أبي، سنعود إليك"، فاستيقظ من نومه فزعا، وبدأ يحسب الأيام على أمل عودتهم، لم يكن يعلم حينها أن رحلة الأمل هذه ستستمر طوال حياته.
صوتهم يرافق خطواتي
قرر رشاد أن يتجول في شوارع المدينة، علّه يرى وجوههم بين المارة، أو يسمع أصواتهم بين الضوضاء، كان يتخيلهم يركضون أمامه ويلعبون، كان صوتهم يرافقه في كل خطوة يخطوها، يملأ قلبه بالدفء والأمل.
وفي يوم من الأيام، بينما كان يسير في إحدى الحدائق العامة، رأى مجموعة من الأطفال يلعبون، فاقترب منهم وجلس بينهم، وبدأ يحكي لهم عن أبنائه الثلاثة، وكيف كانوا يلعبون في هذه الحديقة، وكيف كان صوتهم يملأ المكان بهجة وسعادة.
استمع الأطفال إلى حكايته باهتمام، ثم سألوه عن أسماء أبنائه، فقال لهم: "اسم أكبرهم كان أحمد، وكان يحب كرة القدم، وكان الأصغر هو عمر، وكان يحب الرسم، أما الوسطى فكانت نور، وكانت تحب الرقص.".
غادر الأطفال وبقيت ذكراهم
عندما حان وقت مغادرة الأطفال، قال لهم رشاد: "انتظروني هنا غدًا، لأنني سأحكي لكم المزيد من القصص عن أبنائي"، فوعدوه بأن يعودوا، إلا أنهم لم يعودوا.
انتظر رشاد الأطفال في اليوم التالي، وفي اليوم الذي يليه، وفي كل يوم بعد ذلك، لكنهم لم يأتوا، فقرر أن يبحث عنهم في كل مكان، لكنه لم يجدهم.
وبعد فترة، أدرك رشاد أن الأطفال الذين رآهم في الحديقة لم يكونوا أبناءه الثلاثة، لكنهم كانوا مجرد أطفال آخرين يشبهونهم، ويحملون ذكرياتهم معه.
شدني حنيني إليهم
ترك رشاد المدينة وتوجه إلى قرية صغيرة، حيث كان يقضي أبناؤه إجازات الصيف، كان يأمل أن يجد هناك شيئًا يذكره بهم، أو يشعره بقربهم.
وفي القرية، التقى رشاد ببعض أصدقاء أبنائه، الذين أخبروه عن تفاصيل يومهم الأخير، وكيف كانوا سعداء ويلعبون، وكيف رحلوا فجأة وبسرعة.
استمع رشاد إلى قصص أصدقاء أبنائه، وكأنه يستمع إلى أبنائه أنفسهم، وشعر بأن حنينه إليهم يزداد كل يوم، حتى صار جزءًا من كيانه لا يستطيع التخلص منه.
رسمتهم في مخيلتي.. لكنهم لم يعودوا
كان رشاد يعود إلى غرفته كل ليلة، ويجلس على سريره، ويغلق عينيه، ويتخيل أبناءه الثلاثة أمامه، يضحكون ويلعبون، ويحكون له عن يومهم.
كان رشاد يرسمهم في مخيلته، يحاول استعادة ملامحهم وضحكاتهم، لكنه كان يعلم أنهم لن يعودوا أبدًا، ومع ذلك، ظل ينتظرهم، حتى وفاته، فكان آخر ما قاله قبل أن يغمض عينيه: "انتظرني يا ملاكي الصغير.. انتظرني".
رحل رشاد المتولي، تاركًا وراءه قصة مؤلمة عن أب مفجوع، لم يستطع أن يتخلى عن الأمل في عودة أبنائه، حتى آخر لحظة في حياته.