اختار الله سبحانه وتعالى شهر رمضان الكريم لينزل فيه القران الكريم، سورة البقرة ربوة عالية. إنها لحظة سماوية عندما اختار الله تعالى النبي محمد (ص) ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وذلك من خلال تنزيل الوحي الأول من السورة على جبل حراء في مدينة مكة المكرمة. وبهذا أصبحت هذه المدينة مهبط الوحى ومنبع الرسالات، كما أصبحت المسجد الحرام قبلة المسلمين، وهو أول بيت وضع على الأرض، وموطن الحج الذي يعد رمزا لوحدة الأمة الإسلامية.
ومع استقبالنا للشهر الفضيل، يتأهب المسلمون في جميع أنحاء العالم لمرحلة روحية عظيمة، ويستعدون لاستغلال أيام وليالي هذا الشهر المبارك للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فيجتهدون في الصيام والقيام والدعاء وقراءة القران الكريم، كما يحرصون على نبذ الخلافات والعداوات، ويتحلون بالتراحم والتسامح. ومن أجمل تقاليد رمضان المجالس الرمضانية التي يجتمع خلالها المسلمون في المساجد أو الدواوين أو المنازل لتلاوة القران الكريم واستماع الدروس الدينية، فهي فرصة عظيمة للتآلف والتقارب بين المسلمين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " إنما جعل الله الصوم عبادة له، لا ليتوصل به إلى غيره، كصوم من يصوم ليصير قويا على الشهوات، أو ليصير ذكيا". فالصيام ليس مجرد حرمان النفس من الطعام والشراب، لكنه عبادة لله تعالى، يرجى من خلالها مغفرة الذنوب والعتق من النار، وبلوغ الجنة بإذن الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". كما أن الصيام يربي المسلم على الصبر والتقوى والإنضباط. فهو شهر التوبة والإستغفار، شهر الرجاء والإحسان، شهر الوفير والثراء الروحي.
يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله: "رمضان شهر حلو، حلاوته أوامره ونواهيه، حلاوته ما يلقاه الصائم فيه من الثواب والرحمة والمغفرة". ولقد صدق رحمه الله، ففي رمضان يشعر المسلمون بحلاوة الطاعات، وحلاوة المجالس العلمية، وحلاوة التزاور والتراحم، وحلاوة الصدقة والإحسان. إنها ميزة هذا الشهر السعيد، فكم من إنسان هدى الله في هذا الشهر المبارك؟ وكم من تائب أقبل إلى الله سبحانه وتعالى خلاله؟ وكم من صائم وقائم يعتق الله رقبته من النار؟
والصبر على ما يقضيه الله تعالى هو سر العبادات، وقد جعل الله الصوم فرضا على المسلمين استكمالا لمقاصد الصيام، وليكون سببا في تهذيب النفس وتقوية الإرادة، وإعادة بناء الشخصية بعد هدم عادات سيئة قد رسخت في نفسها طوال العام، ففي الصيام يكون الإنسان قادرا على التخلي عن ما ألفه من شهوات، وذلك حينما يمسك عن الطعام والشراب والشهوات المباحة في هذا الشهر الكريم. ولكن مع توالي الأيام يذعن المسلم لأمر ربه، ويصبر نفسه ويحقق أقصى درجات الصبر.
ومن أعظم بركات شهر رمضان المبارك، أنه يزيد من أداء المسلمين للتكافل والتراحم والتعاضد فيما بينهم، فعندما يعملون معا فرحين مسرورين على إطعام الفقراء والمساكين، كما يتعاونون لتوزيع قفة الرحمن والتي تحتوي على أكل وشراب وملابس وأموال، وذلك لإدخال السرور والفرح قلوب من هم لا يملكون قوت يوم وليلة، مما يعود بالنفع عليهم جميعا في الدنيا والآخرة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ".
وفي رمضان أيضا، تزداد مجالس تلاوة القران الكريم، التي تعمر جو المساجد والمنازل بالذكر والخشوع، مما يهيئ النفوس لتقبل الخيرات والبركات، ويحركها للطاعات والعبادات، فتتغير أحوالهم إلى الأفضل بإذن الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ". وإنها لفرصة عظيمة أن نحرص على ختم القران الكريم في رمضان، كما حرص صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم على ذلك، فقد كان أمير المؤمنين أبو بكر الصديق رضي الله عنه يختم القران الكريم في كل ثلاث ليالي، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختمه في كل شهر.
ويختم المسلمون شهر رمضان الكريم بعيد الفطر المبارك، حيث يخرجون بعد انقضاء صيام رمضان البالغ ثلاثين يوما، لأداء صلاة العيد في المصليات المخصصة لها أو المساجد، شكرا لله عز وجل على توفيقه لهم في أداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الله سبحانه وتعالى، دعاء الله أن يكون قد تقبل صيامهم وقيامهم وذكرهم وتلاوة القران الخاص به.