سليم الحص.. معادلة صعبة في السياسة اللبنانية




يطل سليم الحص على المشهد السياسي اللبناني منذ أكثر من خمسة عقود، بشخصية تجمع بين الهدوء والرزانة، والتأمل والعمل، فكان نموذجًا للسياسي الذي لا تعرف ثقافته الثرثرة، ولا يفرط في الظهور الإعلامي، ولا يخرج في مواقف شعبوية، ولا يغريه الحصول على الأصوات.

لم يكن سليم الحص طارئًا على العمل السياسي، بل كان ابن عائلة مترعة بتاريخ وطني، وحافلة بالعطاء، وكما روى هو، فإن لجده لأمه إسهامًا في دحر التتار عن عكا، وجده لأبيه كان أحد وجهاء مدينة صيدا، ولا سيما في الميدان الاقتصادي والتجاري، وكان شقيقه الأكبر فؤاد من رواد الحركة الوطنية، وأول من نادى بالاستقلال عن فرنسا، كما أسس الحزب التقدمي الاشتراكي، وكتب أول دستور للجمهورية اللبنانية، وكان نائبًا ورئيسًا للمجلس النيابي.

الصيدلي السياسي:

دخل سليم الحص عالم السياسة من باب الاقتصاد حين اختاره الرئيس الشهيد رشيد كرامي وزيراً للاقتصاد في حكومته في عام 1970، ولم يكن اختياره عشوائيًا، حيث كان الحص يشغل منصب نقيب الصيادلة، وكان أيضًا رئيس مجمع النقابات الاقتصادية، وأحد أعضاء المكتب الدائم لاتحاد النقابات المهنية الحرة، وكان أيضًا أحد مؤسسي تجمع رجال الأعمال اللبنانيين.

لم يمر عام على وجوده في الحكومة حتى اندلعت الحرب اللبنانية، وكانت أوهام سليم الحص كبيرة، فقد كان يعتقد أن الحرب لن تدوم طويلاً، إلا أنه سرعان ما أدرك حقيقة المأساة، واستقال من منصبه احتجاجًا على مجازر أيلول الأسود، وكأنه كان يقول: لا يمكن أن أكون شاهدًا على هذا الجنون.

بين طرابلس وبيروت:

وفي ظل انقسام اللبنانيين، اختار سليم الحص، ابن بيروت، أن يقيم في طرابلس، لكي يعمل على توحيد الكلمة وجمع الصف، وأسس حركة اللقاء الوطني، التي قامت بتفعيل الحوار بين كل الأطراف اللبنانية، وفي عام 1977 أسس مجددًا تجمع النقابات المهنية الحرة، التي كانت تضم أكثر من ستين نقابة، وهدف الحص من ذلك إلى تكوين جبهة وطنية عريضة، لمواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد لبنان.

رجل الدولة:

بعد انتهاء الحرب على يد لجنة الإنقاذ الوطني، التي كان سليم الحص أحد أعضائها، عاد إلى تولي الوزارات السيادية، فشغل منصب وزير المالية، ثم وزير الخارجية، قبل أن يتولى رئاسة الحكومة للمرة الأولى في عام 1992، وكانت المهمة شاقة لأن لبنان كان يعاني من الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومع ذلك وضع سليم الحص حجر الأساس للخروج من هذا المأزق، فبتوجيهاته أعدت وزارة المالية مشروع موازنة عجزها لا يتجاوز 121 مليون دولار، بعد أن كان العجز يتجاوز مليار دولار سنويًا، وكان من أبرز إنجازات حكومته، إصدار قانون يقضي بإحداث هيئة الرقابة على المصارف، واستحداث سلطة النقد، وإيجاد حل لمشكلة شح المياه في بيروت.

وعندما تولى رئاسة الحكومة للمرة الثانية عام 1998، كان لبنان قد دخل في مرحلة جديدة من تاريخه، حيث بدأ الاستعداد للخروج من الوصاية السورية، وأيضًا إجراء الانتخابات النيابية، وكان سليم الحص في قلب هذه التطورات، وانتهت فترة حكومته باستقالته احتجاجًا على التمديد لإميل لحود عام 2004.

لم يغب سليم الحص عن المشهد السياسي بعد استقالته، وكان دائمًا يعبر عن قلقه تجاه لبنان، كما نصح اللبنانيين ألا يضعوا بيضهم كله في سلة واحدة، محذرًًا من الأحادية، ويعيد دائمًا إلى الأذهان أهمية العيش المشترك، لأن به وحده يبقى لبنان.

أربعون عامًا من الجهود

قضى سليم الحص ما يقرب من أربعين عامًا في العمل السياسي، لم يكن طوالها إلا صوتًا للعقل، ونبراسًا للوطنية، لم يدخل معارك جانبية، ولا دخل في أية صراعات أو خلافات شخصية، بل كان دائمًا يعمل من أجل وحدة لبنان، والحفاظ على استقلاله وسيادته. ولم يفكر خلال مسيرته الطويلة في الترشح إلى رئاسة الجمهورية، لأن كل همه كان توحيد اللبنانيين، ورأى أن طريق بعبدا لا يمر من طرابلس.

التجربة والخبرة الطويلة:

تجربة سليم الحص السياسية الطويلة تجعله قارئًا جيدًا للمشهد اللبناني، وصديقًا حميمًا وعارفًا بخبايا السياسة وما يدور فيها، واستطاع، بفضل ذهنيته، أن يكسب ثقة مختلف الأفرقاء اللبنانيين، وصار بمثابة حلقة وصل بينهم، وخاصة خلال أزمات ومحن لبنان، حيث كان يمثل ضمانة للخروج من هذه الأزمات، وقد نجح في أكثر من مناسبة في لملمة الصفوف اللبنانية، وتشكيل الحكومات التي كانت تخرج البلاد من عنق الزجاجة.

الحص رجل اللحظات الصعبة:

في كل مرة كان لبنان يمر بمرحلة صعبة، كان اسم سليم الحص يطرح كالحل الأمثل، ففي عام 1984، ترأس لجنة الإنقاذ الوطني، التي أنهت الحرب الأهلية، وصاغ وثيقة الوفاق وقاد البلاد نحو الاستقرار، وفي عام 1992، قاد حكومته في أصعب الظروف الاقتصادية، وأجرى الانتخابات النيابية، وفي عام 1998، ترأس الحكومة التي أنهت الوصاية السورية، وأخرجت لبنان من عزلته الدولية. ما يعني أن سليم الحص هو حقًا رجل اللحظات الصعبة، الذي يستطيع أن يجد الحلول للخروج من الأزمات.

الوطني الأمين:

"سليم الحص لبناني مخلص، لم يسع إلى منصب ولم يغره موقع، وخدم بلاده بدون أي مقابل، واستطاع بشخصيته الهادئة وبكلامه الرصين أن يكسب ثقة الجميع، سواء في الداخل أو في الخارج، ومشكلته أنه صريح إلى حد الصدام، ولا يجامل، ولا يهادن، لذلك يصعب على البعض التعامل معه، لقد كرس حياته من أجل لبنان وعاش يردد: أنا لبناني، ولبنان هو موضوعي"، هذه كلمات كامل محاد، صديق سليم الحص، الذي يرى فيه صادقًا مع نفسه ومع غيره، شفوفًا، نظيفًا.

أما الصحفية والكاتبة رنا الشل، فتقول: "بصراحة لا أعرف أين يكمن السر في هذه الشخصية، هذا الرجل الذي أصبح جزءًا من الحياة السياسية اللبنانية، فهو إلى اليوم يحظى باحترام وتقدير الجميع، ويحافظ على وجهه البشوش سواء أكان في الحكومة أم خارجها، ودائماً ما تجده باسماً، لا عداوات لديه ولا ضغائن، ولا أعتقد أن أحدًا استطاع أن يضعه في موقف حرج، فقد ظل محافظًا على مبادئه، ولم يتنازل عنها قط."

ومن أبرز اللقطات التي لا تنسى لسليم الحص، عندما وقع اتفاق الطائف في الطائف عام 1989، حيث رفض الحص، بتوجيه من الرئيس رشيد كرامي، أن يوقع على الاتفاق دون شهداء المقاومة، وكان لدى الحص في جيبه كوفية الشهيد هاشم فنيش، وكان قد احتفظ بها لكي يوقع بها على وثيقة الطائف، تقديرًا لجهاد المقاومة الوطنية، واعترافًا بتضحيات شهدائها.

سليم الحص.. معادلة صعبة في السياسة اللبنانية:

يُحسب لسليم الحص أنه استطاع الحفاظ على حضوره في الحياة السياسية اللبنانية لأكثر من أربعة عقود، وهو ما يدل على أنه سياسي مرموق له ثقله، وأن لديه حضورًا طاغياً في كل الأوساط، فهو الرجل الذي يرضي عنه الجميع