مسلسل دواعي السفر: رحلة إلى عالم الذاكرة والهوية




بين دروب المدن الألمانية الهادئة، حيث الأشجار العريقة والبيوت الملونة، وبين شوارع القاهرة الصاخبة وازدحامها، نسج المخرج العراقي الشاب علاء العبيدي مسلسل "دواعي السفر" (2022)، لوحة فنية تحرك فيها بين الواقع والذاكرة، بين الغربة والوطن، بحثًا عن الهوية المفقودة.
يبدأ المسلسل بمشهد مؤثر لرجلين يقفان على حافة نهر في ألمانيا، يتذكران وطنهما البعيد وينتحبان. ومن خلال هذه البداية الصادمة، يدخلنا المخرج إلى عالم علي (إيهاب أمين)، وهو طبيب عراقي في الثلاثينيات من عمره، غادر وطنه بعد أحداث عام 2003 وسافر إلى ألمانيا حيث يعيش وحيدًا.
تصور لنا حلقات المسلسل حياة علي في غربة ألمانيا، وهي حياة مليئة بالوحدة والحنين إلى الماضي. يمضي علي أيامه في عيادة صغيرة، يعالج المرضى ويتذكر ذكريات وطنه، والشوارع التي نشأ فيها، والناس الذين تركهم وراءه.
وإلى جانب حياة علي الحالية، تأخذنا حلقات المسلسل إلى ذكرياته في العراق، وعلاقته مع زوجته (حنان مطاوع) التي تركها هناك. من خلال الفلاش باك الزمني الرائع، نتعرف على قصة حبهما، والأسباب التي دفعتهما إلى الفراق.
يكشف لنا "دواعي السفر" عن المعاناة التي يعيشها المهاجرون العراقيون في الغربة، وكيف أن دواعي السفر والهجرة تخلق فجوات كبيرة في حياتهم. فبينما يعيش علي في وحدة وانعزال في ألمانيا، تعيش زوجته في العراق مع ابنتهما، وتصارع وحدتها الخاصة وحنينها إليه.
يجسد المسلسل التناقض بين حياة الغربة والحنين إلى الوطن بطريقة مؤثرة. ففي الوقت الذي يجد فيه علي نفسه غريبًا في ألمانيا، يظل قلبه معلقًا بالذكريات والعلاقات التي تركها في العراق. وينقل لنا المخرج هذا التناقض من خلال مشاهد قوية ورمزية، مثل المشهد الذي يقف فيه علي أمام شجرة كبيرة في حديقة في ألمانيا، ويتخيل نفسه يزرعها في العراق.
ورغم آلام الغربة، يحاول علي التمسك بالأمل. فهو يرى في عمله كطبيب وسيلة للمساعدة في التئام جراح الآخرين. ويمثل هذا الجانب الإنساني من المسلسل تذكيرًا بقوة الروح البشرية وقدرتها على التعافي من الصدمات.
ينتهي "دواعي السفر" بمشهد عاطفي يجمع علي بزوجته وابنته في ألمانيا. إنها لحظة لم الشمل التي تحمل في طياتها الكثير من الألم والسعادة في آن واحد. ففي الوقت الذي يتمكن فيه علي أخيرًا من رؤية أسرته مرة أخرى، يدرك أيضًا أن الوطن قد تغير، وأن العودة إليه لن تكون سهلة كما كان يتخيل.
يتركنا المسلسل مع أسئلة حول معنى الوطن والهوية والانتماء. هل يمكن للإنسان أن يكون في وطنه في الغربة؟ هل يمكن أن نترك ذكرياتنا خلفنا ونبدأ حياة جديدة؟ أين تكمن هويتنا الحقيقية، في المكان الذي ولدنا فيه أم في المكان الذي نشعر فيه بالانتماء؟
يجيب "دواعي السفر" عن هذه الأسئلة بطريقة فنية وصادقة. إنه مسلسل مدروس وعميق، يحمل بين طياته الكثير من العواطف والانعكاسات حول موضوع الهجرة والهوية.